من تلك التجاعيد التي تكونت على وجهه… من الأعمال الشاقة والوقت الذي قضاه في شبابه.

باحثاً عن الجوهرة الفاتنة والرائحة الغامضة التي أبقته مع تقدم العمر بما عُرف عنه ذو العقل الناضج والواضح في تحقيق أحلامه.

استمر على نفس الطريق يسافر الذي قطعه عشرات المرات يتحدى تحديات تقدم العمر، ظهره منهك ورؤيته ضبابية وحلقه جاف لكنه يعلم أن رحلته تستحق العناء والمشقة، فهو ينتظر الجوهرة الفاتنة والرائحة الغامضة التي فتنته طوال حياته.

هناك في تلك الغابات علِم من تجاعيد وجهه وإنهاك جسده أنه في رحلته الأخيرة الى هذه الغابات البعيدة التي يجد بينها جوهرته الثمينة، فعلى الرغم من أن عقله لايزال يكتب شغفه ويزيد من حماسه للعثور دوماً على جوهرته الفاتنة من العود النفيس، ولكي يؤسس لتجارة الطيب من خشب العود إلا أن جسده كان منهكاً للغاية.

فقال الرجل المسن للفتى الذي يرافقه دوماً في رحلاته وهو منهك ” آخ يا فتى يبدو إنني في رحلتي الأخيرة هنا”

فأجاب الصبي الذي لايرضى الرجل المسن أن يرافقه سواه “هذا ماكنت تقوله في المرة السابقة ولكنك عدت”.

فأجاب الرجل المسن” هذه ليست كتلك، هذه ليست كتلك وبصوت منهك!! جسدي قد غلبه العمر يافتى”.

لقد عرف هذا الفتى أن الرجل المسن الذي يوقِره ويحترمه قد عنى ماقاله وعلِم أن هذه الرحلة هي بالفعل الرحلة الأخيرة له فتأثر بهذا الخبر وحزن .

وهما يرتشفون الشاي بدأ يستحضر الرجل المسن ذكرياته وكيف بدأ كل شيء، فيحكي للفتى قصصاً من المكان الذي أتى منه حينما قال له الأصدقاء من السوق منذ بدايات أفكاره ” كم خسرت من المال لكي تبحث عن هذه الأخشاب؟

إنها تجارة لن تعطي لك كما تأخذ منك!!”

ولكنني ” كنت أعلم حينها أنني أبني شيئًا ليومٍ ما” ولكن الأصدقاء المقربين علت أصواتهم يوماً بعد يوم قائلين “إنك تخسر جميع أموالك هناك في رحلاتك! لقد منحتهم جميع ماجمعت!”

ويستمر هذا الرجل المسن وهو يحكي للفتى وهو يبتسم ” لازلت يا بُني وبكامل قوتي وعقلي وشغفي مؤمناً أنني اتخذت القرار الصحيح وأن هذه التجارة الفاتنة لها يوماً يستحق تحدي كل التحديات”.

فالرجل المسن يعلم من أعماق قلبه والمشاعر التي كسبها في هذه الرحلات من الناس الذين بين يديهم الجوهرة الفاتنة وقدر حاجتهم للمال لاستخراجها والاستفادة من بيعها ومساعدتهم على أن يعيشوا منها ويعيش هو منها ويعود لأهله بالطيب عطر من أخشاب العود.

فيعلم الرجل المسن من قراءاته في التاريخ بأن هذه التجارة ستأتي وستعود لبلده ومنطقته بأسرها وستكون ذات قيمة مستقبلاً.

والتي فهمها من حوله من التجار الأصدقاء في السوق والحكمة التي ينطلق منها وأن ما كان يدفعه من أموال في هذه الرحلات لم يكن يخسرها وإنما يبني منها مجتمعاً فيبنون له ولهم تجارة المستقبل.

كانت هذه الأنواع من خشب العود تعرف في منطقته لدى الأمراء والأغنياء التي عرفوا أن الرجل المسن هو من يأتي بها.

عرف الأصدقاء من التجار في السوق أن الأمر ليس متعلقاً مع الرجل المسن بتجارة خشب العود والرائحة.

رغم أنها كانت هي الأشياء المحببة لقلبه قرأ عنها ويتعب لأجلها وإنما عرفوا أن الأمر كان معه أبعد من ذلك، فلقد كان شغفه حول جزل العطاء قبل الأخذ وبيع الطيب قبل الربح والاستفادة والإفادة للبائع والمشتري للجوهرة الثمينة، فنمت شهرة هذا الرجل المسن وكذلك انتشر صدى تجارته بالطيب من خشب العود.

فكانت الفكرة المتهورة في بداياتها عندما وضع كل ماله وثروته أصبحت تعرف بأكثر القرارات التي أتخذها جرأة وحكمة ومع الوقت أصبحت تجارة العود رائدة في منطقته والمناطق التي حولها.

ولكن في بداياته احتفظ الرجل المسن بمتجره الصغير بنفسه وقام بأصعب المهام بعد إحضاره للعود في تجهيزه للسوق، وسرعان ما انقضى الوقت ليحين موعد الرحلة الثانية التي اشتاق إليها وإلى القرية التي زارها وتكونت له صداقات فيها.

فتسائل عما إذا كان المكان لايزال قائماً أو تلاشى بسبب صعوبة الوصول اليه وعزلته.

قرر الرجل المسن أن يزور القرية التي بنى له أصدقاء فيها، فزيارته هذه ليست كرحلاته السابقة.

فهي زيارة المحب المشتاق لمن خاض معهم التحديات وساهموا معه في تخطي العقبات، وعندما بدأ في التجهيز للذهاب إليهم وعلموا أنه سيأتي، بدأوا يستعدون لاستقباله، ما إن وصل إلى قريتهم حتى توافد أهل القرية في استقباله يعبرون عن الفرح والسرور بتكبد الرجل المسن العناء لزيارتهم.

فما كان منهم إلا أن يرحبوا به بما كان معهم والذي يعانون للحصول عليه، وهو خشب العود جاهزاً في استقباله هديةً له وامتناناً لزيارته وشكراً لما قدمه طوال زياراته السابقة…

أتى ذلك الصبي والذي أصبح فتىً متعلماً إلى الرجل المسن محتضنه يبكي شوقاً للقائه، فجالسه طوال إقامته يتبادلون الأحاديث حتى وقت عودة الرجل المسن إلى وطنه، فما كان من الشاب إلا أن يُقبل رأس الرجل المسن ويقول ” إنك في مقام والدي ولديّ طلب أن تأخذني معك لأتعلم التجارة على يدك” فما كان من الرجل المسن إلا أن رحّب وفرح وقال له” إنك كإبني ومنزلي وخبرتي ستجدها تنتظرك”.

ومع عودة الرجل المسن إلى دياره وبرفقته الشاب تسائل الشاب وهو يتأمل محاولاً تخمين أفكار الرجل المسن لأجله، فأتى الرجل المسن بقربه وقال له” يا بني لدينا اجتماع عائلي في نهاية اليوم وسنتحدث فيه عن المستقبل”.

فخالط الشاب الفرح والخوف فلا يدري ما سيكون وكيف سيكون وهو يعتبر هذا الرجل المسن قدوة له وفي مقام والده، فكان أكثر من علّمه عن العود ومن زوده بكتب التاريخ وزرع فيه حب العطاء والثقة والأمانة.

إستعد الشاب لحضور الاجتماع العائلي الذي كان على وشك أن يجري في اليوم التالي.

وفي اليوم التالي حضر جميع أفراد عائلة الرجل المسن، وحضر الشاب في المقدمة، وكان الرجل المسن يحكي بشوق عن القصص التي عاشها في رحلاته الشاقة المليئة بالمغامرات و التحديات والذكريات الجميلة.

ويحكي كيف أنه بسبب الصدق والوضوح في العمل قد استغله البعض ولكنه عاد عليه عمله بالخير ويقول لهم ” لم أكن لأحقق شيئاً إن لم أكن ملتزماً بهذه الخصال ولو أنها استُغلت ضدي في بداياتي حتى عادت في صالحي وتجارتي”.

ويقول وهو ينظر إليهم جميعاً ” اليوم وقد اجتمعنا جميعاً وتعلمون أن تقدم بي وجسدي منهك، ها قد تركت لكم جميعاً أمر تجارتي تجارة الطيب من خشب العود وإكمال تحقيق حلمي فأنا اليوم أكبر من أن أفعل ذلك وواجبكم أن تستمروا على هذا الطريق الطيب ذو الأثر الطيب، فأجاب أحد أبنائه قائلاً:” نحتاج نصائحك” وحكمتك يا والدي في هذا الطريق فأشار الرجل المسن إلى ذلك الشاب الذي رافقه طوال رحلاته” هذا الشاب كان رفيقي في جميع رحلاتي فهو رفيق السفر وأنتم رفقاء لإكمال الطريق فاستفيدوا وأفيدوا وأجزلوا بالعطاء”.

فما إن أتم الرجل المسن حديثه مشيراً إلى ذلك الفتى إلا وقالوا له والفزع على وجوههم “هذا الشاب يصغرنا سناً ولم نعرفه”

فأجاب الرجل المسن “نعم هو هذا الشاب الذي تعلم وعرف وعاش كل ما يمكن لأن يكمل مسيرة تجارة العود وأنتم تعلمتم معي كيف نأتي بالعود ونعمل على تجهيزه وتنظيفه وحفظه وهذا الشاب في مقام ابني وهو أخٌ لكم ولتتعاونوا لإكمال الطريق.

كان الرجل المسن يتحدث إليهم وبيده قطعة صغيرة من خشب العود التي وهبت له هدية من أهل القرية، ففرك القطعة بين أصابعه وهو ما كان يفعله دائماً عندما يتأمل ويرسم في مخيلته رؤية المستقبل…

رؤية المستقبل حيث يتم حصاد الأخشاب الثمينة من خلال أسالب مستدامة، مستقبل سيعرف فيه عطر العود القديم ويحظى بالتقدير في جميع أنحاء العالم،،،

مستقبل يحدث الآن…


اكتشاف المزيد من ثقافات العطور

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.